توازن الرعب النووي إلى صراع الهيمنة- تحولات النظام الدولي

المؤلف: طلال صالح بنان09.20.2025
توازن الرعب النووي إلى صراع الهيمنة- تحولات النظام الدولي

في حقبة الأمم المتحدة، كان استقرار النظام الدولي واتزانه يعتمد بشكل أساسي على ما يعرف بتوازن الرعب النووي، والذي حل محل معادلة توازن القوى (1914-1939) التي سيطرت على نظام عصبة الأمم والأنظمة الدولية السابقة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

منذ أن فجر الاتحاد السوفيتي أول قنبلة ذرية له في 19 أغسطس 1949، اعتمد السلام والأمن العالميان على توازن دقيق ومرعب، وهو توازن الإبادة المتبادلة الذي يجعل من المستحيل على أي قوة عظمى أن تقتنع استراتيجياً بشن حرب عالمية والفوز بها. بمعنى آخر، لن تتجرأ أي قوة نووية على شن حرب واسعة النطاق وغير تقليدية دون أن تحرقها نيرانها، وذلك ببساطة لأنها تشعر بثقة زائفة ومطلقة بأنها قادرة على الفوز بأي سباق تسلح نووي يمكن أن يمكنها من شن حرب نووية والفوز بها.

هذا الخوف، بل الرعب، من احتمال الاقتراب من تجربة استخدام الأسلحة النووية، أو حتى التفكير في ذلك، دفع القوى النووية الكبرى، التي تتقاسم الهيمنة العالمية في نظام الحرب الباردة، إلى تبني عقيدة الضربة النووية الأولى، بحيث يظل الصراع، ضمن نطاقه الأيديولوجي، على حافة الحدود الجغرافية لكل قوة نووية عظمى، ولا يتجاوزها، خشية الصدام المباشر بينهما.

صحيح أن هذا التقدم التكنولوجي بين قطبي نظام الأمم المتحدة، الناتج عن امتلاكهما للأسلحة النووية، قد أدى إلى فترة سلام "قسري" بينهما، إلا أنه لم يقلل من التوتر بينهما، على الرغم من تصاعد وتيرة الصراع الأيديولوجي بينهما، حيث سعى كل طرف إلى استقطاب الحلفاء والأصدقاء لتعزيز نفوذه الجيوسياسي على حساب النفوذ الحيوي للطرف الآخر.

ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تتجنبان خلال الحرب الباردة أي شكل من أشكال القتال المباشر بينهما، احتراماً وخوفاً من أن مثل هذا الصدام المباشر بينهما قد يتطور، من خلال التصعيد المتبادل، إلى حرب نووية شاملة تؤدي إلى دمار شامل وهائل ومتبادل.

باختصار، سادت الحرب الباردة حالة من الاستقرار "القسري"، أشبه بحالة "اللاسلم واللاحرب"، وهي حالة تخفي إمكانية اللجوء إلى المواجهة المباشرة بين القوتين العظميين، مع استمرار الصراع الأيديولوجي بينهما ورغبة كل منهما في توسيع نفوذه الاستراتيجي في جميع أنحاء العالم. إلى أن حانت اللحظة الحاسمة في حقبة الحرب الباردة بانهيار أحد قطبي نظام الأمم المتحدة من الداخل (الاتحاد السوفيتي) في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، مما أدى إلى ظهور نظام دولي جديد أحادي القطبية، تهيمن فيه الولايات المتحدة بمفردها على العالم بعد أكثر من أربعة عقود من نظام الحرب الباردة.

النظام الدولي الجديد الذي أعقب خروج الاتحاد السوفيتي من الساحة الأممية للاستيلاء على القدرات الاستراتيجية للنظام الدولي لم يكن نتاجاً لحرب أممية، بل كان نتيجة لانهيار أحد قطبي نظام الأمم المتحدة من الداخل. كان هذا الوضع مشابهاً إلى حد كبير لما حدث في العصر البريطاني (1815-1914) الذي أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى وإنشاء ما يسمى بعصبة الأمم. في كلتا الحالتين، كانت الولايات المتحدة أسيرة لثقافة الانعزال، معرضة عن فرصة تولي قمة الهيمنة العالمية الرفيعة، والتي قُدمت لها في كلتا الحالتين على طبق من فضة، إن لم يكن من ذهب، مرصع بالجواهر والأحجار الكريمة.

ما زهدت فيه الولايات المتحدة في فرصتين تاريخيتين، فترة ما بين الحربين وفترة ما بعد الحربين العالميتين، يطمح فيه اليوم عملاق دولي صاعد جديد من خارج حلبة الصراع التقليدية (الغربية) على مكانة الهيمنة العالمية الرفيعة. وتعكس سلوكيات الصين في هذه الأيام، من خلال الحرب التجارية الدائرة بينها وبين الولايات المتحدة، رغبة جادة في إطالة أمد الصراع إلى أجل غير مسمى من أجل الفوز بمكانة الهيمنة العالمية المتفردة.

قد يشهد العالم بحلول النصف الثاني من هذا القرن نظاماً دولياً جديداً من خارج منظومة الحضارة الغربية التي تعاقبت على الأنظمة الدولية الحديثة منذ نهاية القرن الخامس عشر، والذي بدأ بالاكتشافات الجغرافية التي تُوجت باكتشاف العالم الجديد بين ضفتي المحيطين الأطلسي والهادئ. وقد يكون هذا إيذاناً ببعث الروح في الحضارة الشرقية العريقة بعد سبات عميق دام ستة قرون، سادت خلالها الثقافة الغربية (المادية) الحديثة، التي هي أقرب إلى حركة الصراع منها إلى قيمة السلام.

هذا التحول المرتقب لظهور نظام دولي جديد بقيمه وقوانينه ومؤسساته الأممية قد يعكس صحوة تاريخية تستعيد بها حركة التاريخ مسار تقدمها نحو حقبة تاريخية جديدة تصحح مسارها وتجد فيها ضالتها بعد أكثر من ستة قرون من الحضارة الغربية (المادية) التي تخللتها حروب كبرى سالت فيها دماء غزيرة وأحدثت تحولات حضارية وثقافية جذرية لم يشهدها البشر طوال تاريخهم دون أن ينبثق منها سلام حقيقي أو حتى حالة استقرار حقيقي تعكس حالة التوازن الطبيعي الذي ترعاه العناية الإلهية لعمارة الكون.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة